اقرأ في هذا المقال
- • إيرادات النفط والغاز كانت تُشكّل في السابق حجر الزاوية لاستقرار الموازنة الروسية
- • مشكلات موازنة روسيا تعكس اضطرابات أوسع نطاقًا داخل تحالف أوبك+
- • المفوضية الأوروبية ستطرح قريبًا تشريعًا يقضي بإلغاء واردات الطاقة الروسية بحلول عام 2027
- • روسيا تُوفّر حاليًا أكثر من 20% من احتياجات أوروبا لتحويل اليورانيوم وتخصيبه
يفرض تقلّب أسعار الطاقة وغموض السياسات العالمية ضغوطًا متزايدة على موازنة روسيا الفيدرالية التي تعتمد إلى حد كبير على إيرادات النفط والغاز.
وبعد مضي 4 أشهر فقط من عام 2025، اضطر الاتحاد الروسي إلى إجراء مراجعة مبكرة وشاملة على نحو غير معتاد لموازنته الفيدرالية.
ولا يقتصر الدافع وراء ذلك على الضغوط الاقتصادية المحلية، بل يشمل تضافر عوامل مثل قوة العملة.
كما يشمل عدم القدرة على التنبؤ بسياسات الجهات الفاعلة العالمية الرئيسة مثل الولايات المتحدة، والتحديات الهيكلية التي تواجه مصدري الطاقة حول العالم.
انخفاض إيرادات النفط والغاز الروسية
أعلن وزير المالية الروسي، أنطون سيلوانوف، انخفاض إيرادات النفط والغاز الروسية بمقدار 2.6 تريليون روبل (31 مليارًا و200 مليون دولار)، ما أدى إلى تراجع إجمالي الإيرادات لعام 2025 من 40.3 تريليون روبل إلى 38.5 تريليون روبل.
وفي الوقت نفسه، رُفعت النفقات إلى 42.3 تريليون روبل، ما أدى إلى عجز متوقع في الموازنة قدره 3.79 تريليون روبل، أو 1.7% من الناتج المحلي الإجمالي، أي أكثر من 3 أضعاف التقدير الأصلي البالغ 0.5%.
*(روبل روسي = 0.012 دولارًا أميركيًا)
وعلى الرغم من أن وزارة المالية الروسية تُصرّ على الالتزام بقاعدة الموازنة -ربط نمو الإنفاق بإيرادات غير النفط والغاز- يُشير الواقع المالي إلى تفاقم نقاط الضعف الهيكلية.
في الربع الأول من عام 2025 وحده، بلغ العجز 2.17 تريليون روبل، أي ما يُقارب ضعف الهدف السنوي؛ إذ تُعدّ الفترة من يناير/كانون الثاني إلى مارس/آذار عادةً الأقل إنفاقًا حكوميًا.
إزاء ذلك، انهارت الفرضية الأولية لموازنة عام 2025، التي بُنيت على سعر 69.7 دولارًا للبرميل من النفط الروسي، و96.5 روبلًا للدولار، و4.5% تضخمًا.
وتُعد الأرقام المُحدّثة مُقلقة: 56 دولارًا للبرميل، و94.3 روبلًا للدولار، و7.6% تضخمًا.
ومع ذلك، تُركت توقعات نمو الناتج المحلي الإجمالي، بتفاؤل، عند 2.5%، وهو توقع يعدّه العديد من الاقتصاديين مدفوعًا بدوافع سياسية وغير واقعي اقتصاديًا.
ويعود هذا الاضطراب المالي إلى انكماش ريع الهيدروكربون في روسيا.
تجدر الإشارة إلى أن إيرادات النفط والغاز كانت تُشكّل في السابق حجر الزاوية لاستقرار الموازنة، حيث كانت تُمثل عادةً أكثر من 35% من الإيرادات الفيدرالية قبل عام 2022.
وفي أحدث مراجعة، من المتوقع أن تنخفض حصتها إلى نحو 25%، ما يُمثّل تآكلًا حادًا في القدرة المالية الروسية المُعتمدة على الطاقة.
تحالف أوبك+ عند مفترق طرق.. وحدة أم تفكك؟
تعكس مشكلات موازنة روسيا اضطرابات أوسع نطاقًا داخل أوبك+، التحالف النفطي الموسع الذي يضم روسيا والمملكة العربية السعودية ومنتجين رئيسين آخرين.
وفي خطوة مفاجئة، أعلنت 8 دول أعضاء -بما في ذلك روسيا والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقازاخستان والعراق- زيادة في الإنتاج قدرها 411 ألف برميل يوميًا لشهري مايو/أيار ويونيو/حزيران 2025، ما يعكس سنوات من التخفيضات الطوعية التي تهدف إلى دعم الأسعار.
وتأتي هذه الخطوة في لحظة حرجة، فبعد ارتفاع قصير في أوائل أبريل/نيسان الماضي، انخفضت أسعار خام برنت إلى 59.6 دولارًا للبرميل، بنسبة تزيد على 10% في غضون أسبوعَيْن فقط.
وعلى الصعيد الداخلي، تتصاعد التوترات بين المنتجين ذوي إمكانات الإنتاج العالية -مثل العراق وقازاخستان- والدول التي تتحمّل العبء الأكبر من الالتزام، ولا سيما المملكة العربية السعودية وروسيا.
من ناحيته، أبدى وزير الطاقة القازاخستاني استعداده لإعطاء الأولوية لأهداف الإنتاج الوطني على حصص التحالف، مشيرًا إلى ضرورة استئناف الاستثمارات الضخمة في حقلي كاشاغان وتنغيز النفطييْن.
ويُحاكي هذا السلوك ما حصل قبل انهيار الأسعار عام 2020، عندما تخلى المنتجون مؤقتًا عن حدود الإنتاج، ما أشعل حرب أسعار مؤلمة.
من جهة ثانية، فإن قدرة قازاخستان على الاستفادة من زيادة الإنتاج مُقيدة ببنيتها التحتية التصديرية المحدودة، خصوصًا اعتمادها الكبير على تحالف خط أنابيب بحر قزوين (CPC)، الذي يمر عبر روسيا.
وبالنظر إلى وجود طرق بديلة مثل خط أنابيب "باكو-تبليسي-جيهان" والصادرات الصينية عبر اتفاقيات المبادلة، إلا أنها محدودة الحجم وتواجه تحديات لوجستية.
بالإضافة إلى ذلك، فإن سيطرة أنقرة على مضيق البوسفور ونفوذ روسيا على تدفقات الترانزيت يمنحان كلا البلدين نفوذًا على إستراتيجية قازاخستان التصديرية.
وعلى الرغم من أن الانسحاب الكامل من أوبك+ لا يزال مستبعدًا، فإن موقف قازاخستان متزايد الحزم يُهدد بإضعاف تماسك التحالف والإسهام في مزيد من عدم الاستقرار في أسواق النفط العالمية.
من جانبها، لا تزال روسيا ترى تحالف أوبك+ طوق نجاة اقتصاديًا، ورمزًا لعدم العزلة في ظل العقوبات الغربية.
ويُمكّن هذا التحالف موسكو من إبراز نفوذها في مجال الطاقة والحفاظ على علاقات دبلوماسية مع دول أخرى.
وفي الوقت نفسه، أصبح امتثال روسيا، حاليًا، مُنصبًّا على المظهر أكثر منه على النتائج، فانخفاض الأسعار يعني أن زيادة الكميات لا تُعوّض خسائر الإيرادات.
صادرات الطاقة الروسية إلى أوروبا
في الوقت الذي تُكافح فيه روسيا لضبط ميزانيتها، يُواجه مستقبل صادراتها من الطاقة إلى أوروبا حصارًا إستراتيجيًا.
وفي 6 مايو/أيار 2025، أكد مفوض الطاقة في الاتحاد الأوروبي، دان يورغنسن، أن المفوضية الأوروبية ستطرح قريبًا تشريعًا يقضي بإلغاء واردات الطاقة الروسية بحلول عام 2027، بما في ذلك غاز الأنابيب، والغاز المُسال، والنفط، وحتى الوقود النووي.
لم يعد هذا مجرد إعلان سياسي؛ إذ تتضمن الخطة ما يلي:
- حظر عقود الغاز الجديدة والمعاملات الفورية مع الموردين الروس بحلول نهاية عام 2025.
- إنهاء كامل للعقود طويلة الأجل القائمة بحلول عام 2027، مع اللجوء إلى القوة القاهرة.
- التخلص التدريجي من واردات الوقود النووي والخدمات المرتبطة به، إذ تُوفّر روسيا حاليًا أكثر من 20% من احتياجات أوروبا لتحويل اليورانيوم وتخصيبه.
- تعزيز متطلبات الشفافية، ما يُلزم المشترين في الاتحاد الأوروبي بالإفصاح عن جميع شروط العقود مع موردي الطاقة الروس.
- فرض قيود صارمة على الواردات القائمة على المبادلات، حيث يتم تمرير الغاز الروسي عبر دول ثالثة مثل تركيا.

وعلى الرغم من العقوبات، لا تزال بعض صادرات الطاقة الروسية تتدفق إلى أوروبا.
وارتفعت واردات الغاز المسال بنسبة 12% في عام 2024، في حين ارتفعت شحنات الغاز عبر خطوط الأنابيب -ومعظمها عبر خط أنابيب ترك ستريم- بنسبة 26%.
رغم ذلك، فإن هذه التدفقات تستمر لأطول مما هو متوقع، حيث لا تزال المجر وسلوفاكيا والنمسا تعتمد على روسيا، لكن اتجاه الاتحاد الأوروبي لا رجعة فيه: بحلول عام 2027، من المتوقع أن تكون الطاقة الروسية غائبة فعليًا عن أوروبا.
من جهتها، ترى المفوضية الأوروبية أن هذه الخطة قابلة للتنفيذ نظرًا إلى الزيادة المقبلة في قدرة الغاز المسال العالمية؛ نحو 85-90 مليار متر مكعب متوقعة بحلول أواخر عام 2026، معظمها من الولايات المتحدة وكندا وقطر وأفريقيا.
وتزوّد الولايات المتحدة وحدها، حاليًا، أكثر من 45% من الغاز المسال في أوروبا، وهو رقم من المتوقع أن يرتفع أكثر.
معضلة الطلب والضبابية العالمية بشأن النفط
يُضاف إلى هذه الاتجاهات حالة الضبابية المحيطة بالطلب العالمي على النفط.
على صعيد آخر، فإن الحروب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وتصاعد التوترات الجيوسياسية في الشرق الأوسط (بما في ذلك هجمات الحوثيين على سفن الشحن في البحر الأحمر)، وتشديد الأوضاع المالية، تُعد عوامل مسببة لضعف مؤشرات الطلب المستقبلية.
ووفقًا لوكالة الطاقة الدولية، فقد نما استهلاك النفط في الربع الأول من عام 2025 بمقدار 1.2 مليون برميل يوميًا، وهو أسرع معدل نمو منذ عام 2023.
ويعكس هذا الزخم الذي اكتسبته الأسواق الناشئة بعد جائحة كوفيد-19 واحتياجاتها الهيكلية من الطاقة، التي ما تزال في طور التصنيع.
من ناحية ثانية، قد يكون هذا النمو عابرًا، وفي حال تدهور الأوضاع الاقتصادية العالمية -لا سيما في الصين أو الولايات المتحدة- سيضعف الطلب على النفط عندما يزيد المنتجون من إنتاجهم.
وهذا من شأنه أن يدفع الأسعار إلى مزيد من الانخفاض، ما يُعمّق الأزمات المالية للدول النفطية مثل روسيا وإيران وفنزويلا.
وفي الوقت نفسه، تُؤدي عودة دونالد ترمب إلى الساحة السياسية إلى مزيد من التقلبات.

ويقترح مشروع قانون جديد من الحزبيْن في مجلس الشيوخ الأميركي فرض رسوم جمركية بنسبة 500% على جميع الصادرات الروسية، بما في ذلك الطاقة، ويحظى بدعم 72 من أصل 100 عضو في مجلس الشيوخ الأميركي.
وعلى الرغم من أن الاستهلاك العالمي أظهر ارتفاعًا مؤقتًا في أوائل عام 2025، فإن هذا لا يعوّض كثيرًا عن الانخفاض الهيكلي في أرباح روسيا من الطاقة، خصوصًا في ظل انهيار أسعار خام الأورال، الذي انخفض الآن بنحو 15 دولارًا للبرميل عن المتوقع.
في المقابل، أدى تآكل دعم الأسعار بسبب التوترات الداخلية في تحالف أوبك+ والإفراط في الإنتاج، خصوصًا من الأعضاء المتجاوزين للحصص مثل العراق وقازاخستان، إلى إضعاف القاعدة المالية لروسيا، إذ لا يزال النفط والغاز يشكّلان نحو 25% من إيرادات الموازنة.
وعلى الرغم من تعظيم إنتاجها المسموح به بموجب حصص أوبك+، لا تستطيع روسيا تعويض الإيرادات المفقودة من خلال الحجم وحده، وقد تضخم عجز موازنتها بالفعل بأكثر من 100% عن التوقعات الأولية.
وفي غياب أي انفراج في الأفق، تواجه موسكو ضغوطًا متزايدة لإيجاد مصادر دخل بديلة، على الأرجح من خلال تشديد النظام الضريبي المحلي.
ومن الناحية الإستراتيجية، تعمل هذه الهشاشة المالية على تقويض قدرة روسيا على تمويل جهودها العسكرية، ودعم وكلائها الدوليين، أو الحفاظ على النفوذ الجيوسياسي من خلال دبلوماسية الطاقة، ومن ثم تضخيم تعرضها للضغوط الاقتصادية الداخلية والعزلة الجيوسياسية الخارجية.
التداعيات الجيوسياسية
تُعد التداعيات الجيوسياسية لهذه التطورات عميقة ومتعددة الأوجه، لأن ضعف روسيا المالي، المتجذر في اعتمادها على إيرادات الهيدروكربون، ينكشف بشدة مع انخفاض أسعار النفط، وتحسن ديناميكيات العملة، وتقلص فرص وصولها إلى أسواق الطاقة الأوروبية الأساسية.
وتشير المراجعة المبكرة لموازنة عام 2025 إلى أن حصن موسكو الاقتصادي أكثر هشاشة مما يبدو، وأن الاتجاهات طويلة الأجل تتجه بصورة حاسمة ضد الكرملين.
بدورها، تقوض إجراءات أوبك+ إحدى آخر المنصات المتبقية التي يمكن لروسيا من خلالها ادعاء أهميتها الاقتصادية وقوتها الناعمة.
وفي حال اتسع نطاق المعارضة في قازاخستان، أو إذا أعطت المملكة العربية السعودية الأولوية لحصة السوق على الوحدة، فقد ينجرّ التحالف إلى حرب أسعار مدمرة أخرى، وهو أمر لا تستطيع روسيا تحمله.
وحسبما أظهرت تجربة عام 2020، فإن مثل هذه الحروب تضر بجميع المصدرين، لكن روسيا تعاني أكثر، بسبب جمودها المالي، وعزلتها الناجمة عن العقوبات، وارتفاع تكاليف الإنتاج.
في غضون ذلك، ستعيد خطة المفوضية الأوروبية لفك الارتباط في مجال الطاقة تشكيل خريطة الطاقة الأوراسية.
وستواجه محاولات روسيا لإعادة توجيه صادراتها عبر تركيا أو الصين أو الهند عقبات، سواءً أكانت لوجستية أم متعلقة بالبنية التحتية أم سياسية.

ومن غير المرجح أن تتراجع أوروبا عن مسارها، حتى في حال وقف إطلاق النار في أوكرانيا.
لقد شارف عصر الطاقة الروسية الرخيصة والآمنة للاتحاد الأوروبي على الانتهاء، ومعه ركيزة أساسية من ركائز النفوذ الجيوسياسي لموسكو.
خلاصة القول، لم تعد الطاقة موردًا أساسيًا للاتحاد الروسي، بل أصبحت عبئًا إستراتيجيًا.
ونتيجة لاستنفاد موسكو احتياطياتها، وتراكم عجزها، ومواجهتها انخفاضًا في الطلب من أكبر مشتريها التاريخيين، ستُجبر على اتخاذ خيارات صعبة: زيادة الضرائب المحلية، أو إصدار المزيد من الديون، أو خفض الإنفاق على البرامج الحساسة سياسيًا.
وهذا يُضعف روسيا اقتصاديًا ودبلوماسيًا، إذ تفقد قدرتها على المساومة في مناطق رئيسة مثل الشرق الأوسط وآسيا الوسطى والقطب الشمالي.
ويتسارع تحول الطاقة العالمي، الذي كان يُنظر إليه في السابق على أنه تهديد بطيء الحركة للدول النفطية، يتسارع تحت وطأة الحرب والعقوبات والحروب التجارية.
وفي نظام الطاقة الناشئ هذا، سيكون الفائزون هم من يتحكمون بالمرونة والبنية التحتية والوصول إلى الأسواق؛ وليس فقط احتياطيات الخام.
فروسيا، على الرغم من مواردها الهائلة، تُحرم من مستقبلٍ أسهمت في تشكيله.
وما لم تُعزز موسكو مرونتها، وتُوسّع بنيتها التحتية، وتُؤمّن وصولًا أوسع إلى أسواق قطاع النفط والغاز، فستواجه صعوبةً في التكيف مع تحول الطاقة العالمي المتسارع.
وفي غياب هذه التعديلات الهيكلية، ستُجبر روسيا على التحوّل نحو تطوير قطاعاتها غير النفطية والغازية بصفته ضرورة إستراتيجية للحفاظ على الاستقرار الاقتصادي والمكانة الجيوسياسية.
فيلينا تشاكاروفا، متخصصة في الشؤون السياسية بالدول المنتجة للطاقة.
هذا المقال يمثّل رأي الكاتبة، ولا يعبّر بالضرورة عن رأي منصة الطاقة.
موضوعات متعلقة..
اقرأ أيضًا..