في خطوة قانونية غير مسبوقة أثارت موجات من الجدل في بريطانيا وعلى الساحة الدولية، يواجه عشرة مواطنين بريطانيين اتهامات جسيمة بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية أثناء خدمتهم في صفوف الجيش الإسرائيلي خلال الحرب المستمرة في قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023.
هذه القضية، التي بدأت تتضح معالمها مع اقتراب تسليم تقرير شامل من 240 صفحة إلى وحدة جرائم الحرب في شرطة العاصمة البريطانية (سكوتلاند يارد) يوم الإثنين المقبل في أبريل 2025، أعادت فتح النقاش حول مسؤولية الأفراد الذين ينخرطون في نزاعات خارجية، وألقت الضوء على التزامات بريطانيا بموجب القانون الدولي، وفقًا لصحيفة الإندبندنت البريطانية.
سياق الحرب والمشاركة البريطانية
انطلقت شرارة التصعيد الأخير في غزة عندما شنت حركة حماس هجومًا واسعًا على جنوب إسرائيل في أكتوبر 2023، أسفر عن مقتل أكثر من 1200 شخص وأسر مئات الرهائن. ردت إسرائيل بعملية عسكرية مكثفة شملت قصفًا جويًا وبريًا للقطاع، أدت إلى سقوط عشرات الآلاف من الضحايا الفلسطينيين، معظمهم من النساء والأطفال، وفقًا لتقارير الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية.
خلال هذا النزاع، الذي وُصف بـ"حرب الإبادة" من قبل نشطاء ومحامين، انضم عدد من الأجانب، بينهم بريطانيون، إلى القوات الإسرائيلية، إما كمتطوعين أو كأفراد يحملون جنسية مزدوجة، مما وضعهم في دائرة الاتهام.
التقرير القانوني وجمع الأدلة
أعدّ فريق من الخبراء القانونيين، بقيادة المحامي البارز في مجال حقوق الإنسان مايكل مانسفيلد، تقريرًا معمقًا بالتعاون مع المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان ومركز قانون المصلحة العامة في بريطانيا.
هذا التقرير، الذي يُعد الأول من نوعه في المملكة المتحدة، يستند إلى ستة أشهر من التحقيقات المكثفة بين أكتوبر 2023 ومايو 2024، ويتضمن أدلة دامغة مثل شهادات شهود عيان، وتسجيلات مصورة، وصور فوتوغرافية تم التحقق منها بعناية.
وقّع سبعون خبيرًا قانونيًا وناشطًا في مجال حقوق الإنسان على رسالة دعم مرفقة، تحث شرطة لندن على فتح تحقيق عاجل في الجرائم المزعومة، التي تشمل القتل العمد للمدنيين، والترحيل القسري، والهجمات على البنية التحتية المدنية مثل المستشفيات والمدارس.
وكان بول هيرون، المدير القانوني لمركز قانون المصلحة العامة، قد أعرب عن صدمته من تورط مواطنين بريطانيين في هذه الأعمال، قائلًا: "إن مشاركتهم النشطة في القوات الإسرائيلية ومساهمتهم المباشرة في الفظائع أمر صادم وغير مقبول. نحن كبريطانيين لا يمكن أن نسمح بتمثيلنا بهذه الجرائم".
وأضاف أن التقرير يهدف إلى وضع حد للإفلات من العقاب، مؤكدًا أن "هذه الجرائم ليست باسمنا".
شهادات مروعة وتفاصيل الجرائم
وتضمن التقرير شهادات مؤلمة جمعتها منظمات حقوقية في غزة. أحد الشهود، الذي فقد أقاربه في هجوم إسرائيلي، وصف مشاهد مروعة في بيان حصل عليه "العربي الجديد" عبر المركز البريطاني الفلسطيني للإعلام: "وقفت عاجزًا أمام جثث متناثرة مغطاة ببطانية بالكاد تخفي ملامحها. عندما رفعنا الغطاء، رأيت عمي وابنه، وأبناء أخي، وصهري، ممزقين إلى جانب نازحين آخرين لجأوا إلى المكان بحثًا عن الأمان".
هذه الشهادة تسلط الضوء على الدمار الذي خلفه القصف، والذي يُزعم أن البريطانيين العشرة، بينهم من يحملون جنسية إسرائيلية مزدوجة، كانوا متواطئين فيه.
الاتهامات تشمل أيضًا هجمات على عمال الإغاثة، والإبادة الجماعية، وتدمير المواقع المحمية مثل المعالم الدينية، وهي أفعال تُعتبر انتهاكات صارخة للقانون الدولي الإنساني بموجب اتفاقيات جنيف وميثاق روما.
مايكل مانسفيلد علّق قائلًا: "على مدى 18 شهرًا، شاهدنا جرائم دولية تتكشف أمام أعيننا، دون أن يتحرك قادتنا لوقف معاناة الملايين. نطالب بتحقيق جاد، ومحاكمة المسؤولين إذا ثبتت التهم، فلا أحد فوق القانون".
الخطوات القانونية والإعلان العام
من المقرر أن يُقدم التقرير رسميًا إلى سكوتلاند يارد يوم الإثنين المقبل، مصحوبًا بمؤتمر صحفي أمام المقر الجديد للشرطة في لندن. سيشارك في المؤتمر محامون ونشطاء حقوقيون لشرح تفاصيل القضية والضغط على السلطات لاتخاذ إجراءات فورية.
لم يتم الكشف عن التقرير الكامل حتى الآن، امتثالًا للقوانين البريطانية التي تتطلب السرية لحين مراجعة الشكاوى، وفقًا لما أكده معدو التقرير لصحيفة تورنتو ستار الكندية.
وتعتمد القضية على القانون البريطاني، وبالأخص القسم 51 من قانون المحكمة الجنائية الدولية لعام 2001، الذي يجعل من ارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية خارج بريطانيا جريمة يعاقب عليها القانون المحلي. كما يثير قانون الالتحاق الأجنبي لعام 1870 تساؤلات حول شرعية انضمام البريطانيين إلى جيش أجنبي في نزاع لا تعتبر فيه المملكة المتحدة طرفًا محاربًا.
الجهود الحقوقية الدولية
تأتي هذه القضية في إطار جهود أوسع تقودها منظمات حقوقية عالمية. قبل أسبوعين، أفاد "العربي الجديد" عن استعدادات لرفع دعاوى ضد بريطانيين مشتبه بتورطهم في جرائم حرب في فلسطين، بما في ذلك غزة والضفة الغربية.
هذه الجهود تتزامن مع إطلاق تحالف "غلوبال 195" في 18 مارس 2025، وهو تحالف يضم محامين ومؤسسات قانونية من عدة دول، يهدف إلى محاسبة مرتكبي جرائم الحرب في فلسطين.
وقال طيب علي، أحد قادة التحالف، خلال الإعلان: "لن نسمح بأن تُرتكب هذه الجرائم دون عواقب، سواء كان المسؤولون مواطنين محليين أو أجانب".
وأكد جوناثان بورسيل، المتحدث باسم المركز الدولي للعدالة من أجل الفلسطينيين، أن "جلوبال 195" لن يكتفي بتقديم شكاوى إلى السلطات الوطنية، بل سيتبع ذلك بدعاوى خاصة في المحاكم ضد المشتبه بهم، مستندًا إلى أدلة شاملة جمعت وفق معايير القانون الجنائي الدولي.
وأضاف: "نمتلك مكتبة أدلة جاهزة لتقديمها إلى أي محكمة، سواء في بريطانيا أو خارجها".
ردود الفعل والتحديات
ولم تصدر الحكومة البريطانية تعليقًا رسميًا بعد، لكن الموقف التقليدي لبريطانيا كحليف لإسرائيل قد يعقد التحقيقات. من جانبها، تنفي إسرائيل باستمرار الاتهامات بارتكاب جرائم حرب، معتبرة عملياتها "دفاعًا مشروعًا" ضد حماس. في المقابل، حثت منظمات مثل "هيومن رايتس ووتش" والمحكمة الجنائية الدولية، التي تحقق في النزاع منذ 2021، على محاسبة جميع الأطراف.
وتواجه القضية عقبات، منها صعوبة جمع الأدلة من منطقة محاصرة، والضغوط السياسية المحتملة على الشرطة البريطانية. كما أن هوية المتهمين العشرة لم تُعلن بعد، مما يثير تساؤلات حول مكان وجودهم وإمكانية اعتقالهم.
في حال ثبتت التهم، قد يواجهون محاكمات في بريطانيا أو تسليمهم إلى المحكمة الجنائية الدولية، وهو ما سيضع بريطانيا أمام اختبار قانوني وسياسي غير مسبوق في تعاملها مع النزاع الفلسطيني الإسرائيلي.