أخبار عاجلة

وهم السلطة...

وهم السلطة...
وهم السلطة...

في قلب الهياكل التنظيمية للمؤسسات والشركات الكبرى، يُختزل “القهر الإداري” في صورةٍ أكثر تعقيداً من مجرد ضغوط العمل الروتينية؛ إنه صراعٌ وجودي يعيشه المسؤول بين هويته الرسمية (كلقب المدير أو الرئيس) وهويتِه الفعلية كأداة في آلة بيروقراطية، حيث يخلق هذا التناقض أزمة شرعية داخلية تُضعف الفاعلية وتُغذي السخرية من الذات، فتبدو السلطة كمسرحيةٍ فارغة يُمنح فيها الألقاب دون صلاحيات، وتُفرض المسؤوليات دون موارد، فيتحول صاحب المنصب إلى سجينٍ في برجٍ عاجي، يُحاسَب على نتائج لا يملك أدوات تحقيقها، ويُمنع من الإصلاح بحجج التعليمات.

التشريح النفسي للمسؤول المقهور

يعيش المسؤول المقهور صراعاً وجودياً مريراً بين صورته الذاتية كقائد يوحى بها منصبه الرفيع وواقعه اليومي كمنفذ مقيد بالأنظمة والروتين، حيث يولد هذا التناقض الحاد حالة من “التنافر المعرفي” تتمزق فيها هويته المهنية بين طموحات القيادة وإكراهات التنفيذ، فتتحول مهامه من صنع القرار إلى مجرد توقيع أوراق، ومن التخطيط الاستراتيجي إلى إدارة الأزمات اليومية، مما يفرز سلسلة من الآثار المدمرة تبدأ بالإحباط المزمن الذي يقتل الإبداع، مروراً بتراجع الرضا الوظيفي الذي يحول العمل إلى عبء ثقيل، ووصولاً إلى فقدان الدافعية الذي يحطم آخر معاقل المقاومة النفسية، ليصبح في النهاية مجرد ظل لقائد كان يحلم أن يكونه، عالقاً في شبكة معقدة من التوقعات المفروضة والإمكانيات المسلوبة، حيث تتحول السلطة من أداة للتغيير إلى قفص ذهبي للعجز المقنّع.

مظاهر القهر الإداري

ويُكمل القهر الأفقي مأساة المسؤول الإداري عبر حرب خفية تشنها الإدارات المتجاورة، حيث تتحول المكاتب المتلاصقة إلى ساحات صراع خفية تتنازع فيها الأقسام على النفوذ والمعلومات، فيُحاصر المدير بين زملاء يحتكرون البيانات الحيوية ويُحيكون المناورات السياسية، بينما يزداد العبء النفسي مع كل صراع داخلي يستهلك طاقته بدلاً من توجيهها للإنتاج. وفي خضم هذه المعارك الخفية، ينشأ قهر ذاتي أكثر إيلاماً، حيث يبدأ المدير في شكّ بقدراته، فيتردد في اتخاذ القرارات خوفاً من العواقب، ويُعاني صراعاً مريراً بين مبادئه المهنية وضرورات الواقع البيروقراطي، حتى يفقد تدريجياً إيمانه بإمكانية التغيير، فيتحول من قائد محتمل إلى سجين لنظامٍ يقهره من الخارج ويقهر نفسه من الداخل.

تداعيات القهر الإداري

على المستوى الفردي، يدفع القهر الإداري ضريبته النفسية عبر ارتفاع حاد في اضطرابات القلق والاكتئاب، حيث تشير الدراسات إلى أن 65% من المديرين المتوسطين يعانون من أعراض الاحتراق الوظيفي المزمن (منظمة الصحة العالمية)، الذي يظهر في صورة إرهاق دائم وأرق متكرر وآلام جسدية غير مبررة. أما على الصعيد المؤسسي، فتتجلى الكارثة في انهيار مؤشرات الأداء بنسبة قد تصل إلى 40% (Harvard Business Review, 2022)، مع نزيف مستمر للكفاءات وهجرة الأدمغة إلى قطاعات أكثر مرونة، بينما تتحول المؤسسات إلى هياكل جامدة تكرس الشكل على المضمون.

سبل التحرر

يمكن للمسؤول المقهور كسر هذه الحلقة عبر تبني استراتيجيات المواجهة الذكية، مثل تطوير المرونة النفسية عبر تدريبات إدارة الضغوط، وبناء تحالفات مهنية عابرة للإدارات، وممارسة الإدارة التشاركية كبديل عن الأوامر الرأسية. أما على المستوى المؤسسي، فيتطلب الحل إعادة هندسة جذرية تشمل تفكيك البيروقراطية عبر تبسيط الهياكل، وتحويل ثقافة المؤسسة من الرقابة العقيمة إلى تمكين حقيقي يربط المسؤولية بالصلاحيات، مع إرساء أنظمة حوافز ذكية تحفز الابتكار بدلاً من معاقبته.

تحرير الطاقة الإدارية المكبوتة ليس مجرد إجراء إصلاحي، بل هو تحول جذري في فلسفة الإدارة نفسها، حيث يتحول المسؤول المقهور من ضحية لنظام معطل إلى فاعل رئيسي في تغييره، وذلك عبر كسر القيود البيروقراطية التي تحول دون الابتكار، وتبني ثقافة مؤسسية جديدة تقوم على الثقة بدل الرقابة، والتمكين بدل المركزية، بحيث يصبح المدير قادراً على تحويل التحديات إلى فرص، والعقبات إلى دروس، في مسيرة متواصلة نحو تحقيق التوازن بين متطلبات النظام وطموحات القيادة، لأن التحرر الحقيقي يبدأ عندما ندرك أن القيادة الفعالة ليست في امتلاك السلطة، بل في القدرة على إطلاق طاقات الآخرين حتى في أكثر البيئات تقييداً.

هل يُصلح الباراشوت الإداري المؤسسات أم يكرّس أزماتها؟

ظاهرة “الباراشوت الإداري” – إسقاط مسؤول من خارج الهيكل التنظيمي – تبقى سلاحاً ذا حدين. من ناحية، تمثل صدمة إيجابية للنظام البيروقراطي المتصلب، حيث يأتي المسؤول الجديد بحيادية تامة، غير مرتبط بتحالفات قديمة أو مصالح راسخة، مما يمنحه حرية غير مسبوقة في كسر الجمود واتخاذ قرارات جريئة. فترة “البراءة البيروقراطية” الأولى (3-6 أشهر) تشكل نافذة ذهبية للإصلاح، حيث يمكن لهذا القائد المفاجئ أن يطرح الأسئلة المحرمة، ويتحدى الثوابت الراسخة، ويطلق مشاريع كانت تنتظر منذ سنوات في أدراج الإهمال.

لكن.. هل يكفي هبوط مظلي واحد لتغيير نظام بأكمله؟

التجارب تكشف أن تأثير “الباراشوت” يبقى محدوداً دون دعم مؤسسي حقيقي. كثيرون ينتهي بهم المطاف إما منغمسين في المستنقع البيروقراطي نفسه، أو مغادرين وسط صراعات مع “الحرس القديم”. النجاح الحقيقي يتطلب أكثر من مجرد شخصية كارزمية – إنه بحاجة إلى خطة تحوّل مؤسسي مصاحبة، وأدوات تمكين فعلية، وإرادة سياسية داعمة. كما قال أحد الخبراء بيتر دراكر: “الباراشوت قد يشعل شرارة التغيير، لكن النار لن تستمر دون وقود الإصلاح الهيكلي”. فهل نستطيع تحويل هذه الآلية المثيرة للجدل من مجرد علاج مؤقت إلى جزء من استراتيجية تحول شاملة؟

-أستاذ باحث في علوم التدبير

جامعة ابن طفيل القنيطرة

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق عاجل.. الأرصاد تحذر من حالة الطقس اليوم الثلاثاء بمصر.. "أحكموا غلق النوافذ"
التالى في ذكرى ميلاده والجيش الأمريكي.. ترامب يخطط لعرض عسكري ضخم في واشنطن