أخبار عاجلة

د. محمد فؤاد يكتب: حين يصبح الاستثناء ضرورة: تجربة مي عبد الحميد في قيادة منظومة الإسكان الاجتماعي

د. محمد فؤاد يكتب: حين يصبح الاستثناء ضرورة: تجربة مي عبد الحميد في قيادة منظومة الإسكان الاجتماعي
د. محمد فؤاد يكتب: حين يصبح الاستثناء ضرورة: تجربة مي عبد الحميد في قيادة منظومة الإسكان الاجتماعي

لست ممن يكتبون في مديح الأشخاص؛ لا تحفظًا، بل قناعة بأن العمل العام يُقاس بالمؤسسات لا بالأفراد، وبالأنظمة لا بالأسماء. ومع ذلك، تفرض بعض التجارب نفسها بوصفها استثناءً يستحق التوقف عنده، لا للإشادة الشخصية، بل لأن ما تحقق من خلالها يمثّل نموذجًا مؤسسيًا ناجحًا يجب توثيقه والاستفادة منه.

واحدة من أبرز هذه النماذج – في تقديري – هي تجربة الدكتورة مي عبد الحميد على رأس صندوق الإسكان الاجتماعي ودعم التمويل العقاري. خلال أكثر من عقد، لم يقتصر العمل على تنفيذ مشروع حكومي واسع النطاق، بل تم بناء منظومة تنفيذية متكاملة نجحت في الصمود أمام تغيّر السياسات، وضغوط التمويل، واتساع رقعة الاحتياج، لتجعل من السكن المدعوم واقعًا ملموسًا للفئات غير القادرة، دون المساس باستقرار المالية العامة.

من المبادرة إلى السياسات العامة

منذ انطلاق البرنامج، جرى تسليم أكثر من 750 ألف وحدة سكنية في مختلف المحافظات، في واحدة من أكبر موجات الإسكان المنظّم في العالم العربي. هذا الإنجاز الكمي لا يُقاس بالأرقام فقط، بل يعكس تحولًا نوعيًا من منطق “المبادرة الظرفية” إلى سياسة عامة دائمة، ترتكز على تمويل مستقر وتخطيط استراتيجي، مما جعل التجربة المصرية واحدة من أكثر التجارب استقرارًا وشمولًا في الدول النامية.

هندسة مالية رشيدة وعدالة جغرافية

قامت التجربة على تصميم مالي متوازن، جمع بين الدعم النقدي المباشر (أكثر من 18 مليار جنيه) والدعم غير المباشر عبر تخفيض أسعار الفائدة (قرابة 45 مليار جنيه) بالشراكة مع البنك المركزي. هذا النموذج سهّل دعم الفئات الأولى بالرعاية دون خلق ضغوط تمويلية على الموازنة العامة.

في الوقت ذاته، راعت التجربة العدالة الجغرافية، حيث توزعت المشروعات على معظم المحافظات، خلافًا لنماذج مشابهة في دول مثل تونس، حيث تمركزت 70% من الوحدات حول العاصمة، مما فاقم التفاوت الإقليمي وأضعف الأثر التنموي.

مقارنة دولية: أين نجحت مصر وأين تعثّر الآخرون؟

مقارنة التجربة المصرية مع نظيراتها في العالم النامي تبرز قوتها؛ ففي المغرب، تعثر برنامج “مدن بدون صفيح” بسبب ضعف التنسيق وغياب الاستدامة، وفي الهند، واجه برنامج “Housing for All” تفاوتات حادة في الأداء نتيجة البيروقراطية وضعف الاستهداف. أما في البرازيل، فبعد انطلاقة واعدة، تراجع برنامج “Minha Casa Minha Vida” بفعل أزمات تمويل وغياب المتابعة.

في المقابل، رسّخت مصر نموذجًا متماسكًا جمع بين قيادة مستقرة، وضبط مالي صارم، واتساق في السياسات التنفيذية. وقد كانت الإدارة الهادئة التي وفّرتها د. مي عبد الحميد عنصرًا محوريًا في تحويل البرنامج من مشروع حكومي إلى سياسة تنموية مستدامة.

نمط إداري يركّز على الاستدامة لا الظهور

ما يميز التجربة ليس فقط حجم الإنجاز أو طبيعته المالية، بل النمط الإداري الذي قادها؛ نمط ابتعد عن الاستعراض، وركز على بناء مؤسسات صامتة تنتج نتائج. حافظت الإدارة على اتساق الأداء، رغم تغيّرات السياسات، دون أن تنكسر دورة العمل أو تتشوّه مخرجات البرنامج. هذا النمط يعكس فهمًا عميقًا لطبيعة العلاقة بين الدولة والمواطن، خصوصًا في ملف بالغ الحساسية كالحق في السكن.

تحديات المرحلة المقبلة: من السكن إلى جودة الحياة

التحدي الحقيقي لا يكمن في البناء فقط، بل في ضمان الاستدامة التشغيلية: صيانة المرافق، جودة الخدمات، دمج المجتمعات، وتحوّل السكن إلى بيئة حياة متكاملة. كما تظل هناك أسئلة جوهرية بشأن إمكانية توسيع التجربة للفئات المتوسطة، من خلال أدوات تمويل ميسّرة دون دعم مباشر، ودور الشراكة مع القطاع الخاص دون المساس بجوهر الدعم الاجتماعي.

وفي هذا السياق، فإن الحذر واجب من أخطاء تجارب دولية بدأت قوية ثم تراجعت؛ إما بسبب هشاشة الهياكل التمويلية أو القصور المؤسسي في المتابعة أو تصدّر منطق “إدارة التعطيل” على حساب المصلحة العامة.

خاتمة

ستُؤرّخ تجربة الإسكان الاجتماعي في مصر كواحدة من العلامات البارزة في مسار العدالة السكنية، ليس لأنها الأكبر، بل لأنها الأقرب إلى منطق السياسات العامة المنضبطة، والأبعد عن الشعارات. ويُحسب للدكتورة مي عبد الحميد أنها أدارت هذا المشروع كسياسة تنموية مستدامة، لا كإنجاز فردي أو سياسي عابر، واضعة المواطن في صلب المعادلة، ومتسلحة بفهم واقعي لإمكانات الدولة وحدودها.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق مدير تعليم سوهاج يكرم المعلمات الفائزات في مسابقة الوعي الإداري
التالى البنك الدولي يدعم توسيع منظومة صحة الأم والطفل في البادية المغربية