إثر ترحيل عدد من الأسر من المساكن العشوائية بضواحي المدن إلى أحياء حضرية منظمة، يتجدد النقاش حول مدى قدرة هذه الأسر على الاندماج في النسيج الحضري، وما إذا كان الانتقال الجغرافي قادرا على تحقيق تحولات اجتماعية واقتصادية ملموسة لصالحها.
وفي هذا السياق، تُثار تساؤلات حول تأثير الانتقال إلى المدينة على المسارات الاجتماعية للأسر المعنية، حيث تتباين الآراء بين التفاؤل بتحسين ظروف العيش وبين القلق من إعادة إنتاج الفقر بأشكال جديدة، خاصة في حال غياب الآليات الضرورية للمواكبة التي تساهم في تحويل السكن اللائق إلى ارتقاء مجتمعي حقيقي.
إغراء المدن
حسن قرنفل، أستاذ علم الاجتماع، قال إن “المدن، والكبرى منها على وجه الخصوص، تُمارس إغراء كبيرا على مجموعة من الأشخاص القاطنين إما في المناطق القروية أو شبه القروية، حيث يعتقدون بأن فرص العمل وتحسين ظروف العيش وحتى الاغتناء هي أمور ميسورة وموجودة في الفضاء الحضري، وخاصة في المدن الكبرى”.
وأضاف قرنفل، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن “فئة من هؤلاء السكان يرغبون في الهجرة إلى هذه الفضاءات ويمارسونها فعلا؛ غير أن هذه الآمال كثيرا ما ترتطم بصخرة الواقع، حيث يكتشفون أن ظروف العيش في المدن الكبرى صعبة جدا؛ من صعوبة إيجاد سكن لائق، إلى صعوبة العثور على عمل، وتأسيس أسرة، وتحمل أعباء تهم تمدرس الأطفال والاعتناء بهم”.
وأشار الأستاذ الجامعي إلى أن “هذه التحديات تُطرح على الأسر في كل المواقع، سواء القروية أو الحضرية، لكن وقعها يكون أشد في المدن الكبرى، خاصة في ظل قلة الحيلة وضعف الموارد المالية، ما يدفع الكثيرين إلى السكن في أحياء عشوائية، تُقام غالبا في مناطق غير مهيأة، وبعيدا عن أعين السلطات، ودون توفرهم على الوسائل الضرورية للحياة الكريمة”.
تنظيم المجال بالترحيل
أكد حسن قرنفل أن “هذا الواقع يطرح في لحظة من اللحظات ضرورة الحد من الظاهرة وتنظيم المجال، ويتم ذلك غالبا عبر التخلص من هذه المساكن العشوائية؛ ما يجعل المقيمين فيها أول الضحايا”.
وأوضح أستاذ علم الاجتماع أن “ترحيل سكان الأحياء الهامشية لا يعني بالضرورة إعادة إنتاج الفقر، لأن هناك أحيانا برامج اجتماعية ترافق الترحيل، تعرض بدائل سكنية مثل الشقق الاقتصادية أو البقع الأرضية للبناء؛ مما يُحسن، نسبيا، من الوضع الاجتماعي للسكان”.
ودعا المتحدث ذاته إلى “ضرورة أن تُقام المساكن البديلة في فضاءات تتوفر على بنيات إنتاجية؛ لأن المشكل الأساس، حسب رأيه، هو أن هذه المساكن تُبنى غالبا خارج المدينة، أي خارج مجال النشاط الاقتصادي، ما يزيد من أعباء ومصاريف التنقل. ولهذا، يرفض كثير من سكان الأحياء الصفيحية مغادرة مواقعهم الأصلية، نظرا لارتباط مصالحهم المهنية والاجتماعية بها”.
تداعيات الترحيل الإكراهي
زكرياء أكضيض، أستاذ علم الاجتماع، قال إن “الحديث عن انتقال الأسر من أوساط إلى أخرى باستعمال مصطلح ‘الانتقال’ يحيل على حالة من الانتقال الطوعي والاختياري؛ غير أننا في هذا السياق لسنا بصدد انتقال طوعي، بل نتحدث عن انتقال إكراهي يتم في ظروف معينة، إما بدافع المصلحة العامة أو لأسباب أخرى تُقدّرها السلطات المحلية”.
وأوضح أكضيض، في تصريح لهسبريس، أن “هذا النوع من الانتقال الإكراهي من وسط إلى آخر له من دون شك تداعيات؛ إلا أنه لا يمكن الجزم بأنه سيؤثر مباشرة على الوضع الاجتماعي أو على تراتبية النظام الطبقي، بقدر ما يمكن القول إنه قد يحدث تحولات على مستويات عديدة”.
وأفاد الأستاذ الجامعي بأن “التحولات قد تمس أولا بنية الأسرة، حيث نلاحظ أن في المجالات الهشة هناك ميلا نحو تشكّل أسر ممتدة تتكون من الأب والأم والأبناء غير المتزوجين؛ وبالتالي، فإن الانتقال الإكراهي من مجال إلى آخر قد يفرض تحولات في هذه البنية”.
وأضاف المتحدث ذاته أنه “يمكن رصد تحولات أخرى على مستوى النمط الاقتصادي المعتمد، إذ في المناطق الهشة لا تزال هناك أسر تعتمد على تربية المواشي وعلى التنقل بوسائل تقليدية مثل العربات المجرورة بالحيوانات. ومن هنا، فإن الانتقال الإكراهي قد يؤثر سلبا على هذا النمط الاقتصادي، بما يشمل ليس فقط وسائل النقل؛ بل أيضا الأنشطة الاقتصادية المرتبطة بالمجال الأصلي الذي غادروه”.
وأكد أكضيض أن “ما سبق يمكن ملاحظته بوضوح في حالة ‘كريان سنطرال’، أقدم حي صفيحي في مدينة الدار البيضاء، حيث نُقل السكان إلى مجالات جغرافية بعيدة أو في ضواحي المدينة؛ مما أثر على نمطهم الاقتصادي، إذ إن أغلب سكان صفيح ‘الحي المحمدي’ كانوا يشتغلون في قيسارية الحي المحمدي، التي كانت تؤمن لهم مداخيل أساسية لسد حاجاتهم”.
بين التحسين والتدهور
أبرز زكرياء أكضيض أن “الانتقال الإكراهي يؤثر أيضا على الممارسات الاجتماعية، إذ في المناطق الهشة، تنتعش أشكال من التضامن الاجتماعي، ومختلف آليات مؤازرة الأفراد في أوقات الوفاة أو المرض وغير ذلك. أما في حالة الانتقال، فإن هذه الأشكال قد تشهد تراجعا أو حتى اختفاء”.
وشدد أستاذ علم الاجتماع على أن “هذا الانتقال لا يغير بالضرورة الوضع الاجتماعي للأسر نحو الأفضل؛ بل قد يؤدي أحيانا إلى تدهور وضعيتها بدل تحسينها، نظرا لما يصاحبه من تحولات على مستوى بنية الأسرة والنمط الاقتصادي والممارسات الاجتماعية، مما يجعل الأسر تفقد رساميلها المالية والرمزية التي كانت تضمن لها القدرة على الاستمرار”.
وقال المتحدث عينه إن “السؤال المتعلق بإكراهات هذه الأوساط يبقى مرتبطا بشكل وثيق بما تمت الإشارة إليه سابقا؛ فالإشكال المطروح هو إلى أي حد تستطيع المجالات الجغرافية الجديدة أن تستوعب ممارسات وقيم وأنشطة هذه الأسر ونمط عيشها؟ وهذا يطرح تحديا حقيقيا: هل يتم التفكير في هذا الانتقال باعتباره يتلاءم مع نمط عيشهم ويستجيب في الوقت ذاته لحاجاتهم الاقتصادية والاجتماعية والرمزية والطقوسية؟”.
وختم أكضيض توضيحاته بالإشارة إلى أن “عدم استجابة هذه المجالات الجديدة لحاجيات الأسر المُرحّلة قد يحولها إلى مجالات فارغة، بل وقد تصبح حاضنة لسلوكيات لا مدنية، مثل الجريمة، وتعاطي المخدرات، أو التطرف؛ لأن الفرد لم يجد في المجال الذي نُقل إليه فضاء جغرافيا يستجيب لمختلف أبعاد حاجاته. وهذا جوهر ما يمكن توضيحه بخصوص إكراهات هذه الأوساط”.