بدأت القضية الفلسطينية كقضية وطنية تتعلق بشعب فلسطينى يبحث عن استرداد حقوقه الأساسية وأرضه التى اغتصبها الاحتلال الصهيونى عام 1948. ومع تدفق اللاجئين الفلسطينيين إلى البلدان المجاورة، وأمام المذابح والمجازر التى تعرضوا لها، أصبحت القضية الفلسطينية فى صلب الوعى العربى والإسلامي، باعتبارها قضية حقوقية وإنسانية. ورغم تماسك الشعب الفلسطينى فى صموده، وتأسيسه للمنظمات الوطنية مثل منظمة التحرير الفلسطينية، التى تمثل وحدة الشعب الفلسطينى وأهدافه الوطنية، ظلت القضية الفلسطينية قضية نضال من أجل الحرية والاستقلال. لكن مع مرور الوقت، تحولت القضية الفلسطينية إلى ورقة ضغط سياسية بيد العديد من الفاعلين الإقليميين والدوليين. إذ بدأت بعض القوى الإقليمية والدولية تستخدمها فى إطار مصالحها السياسية والإستراتيجية، متجاهلة فى الكثير من الأحيان المصلحة الوطنية الفلسطينية. وبرزت هذه الظاهرة بشكل جلى فى بداية السبعينيات، حين بدأ بعض الفاعلين الإقليميين فى توظيف القضية الفلسطينية كوسيلة لتعزيز نفوذهم على الساحة العربية والدولية، بينما كان الهدف الأساسى للفلسطينيين هو التحرير والتخلص من الاحتلال.
وفى العقود الأخيرة، دخلت الحركات الإسلامية على الخط بشكل متزايد، خاصة مع صعود جماعة الإخوان المسلمين وحركاتها المنتشرة فى عدة دول عربية؛ أصبحت القضية الفلسطينية واحدة من أبرز شعارات هذه الحركات، التى استفادت منها لتحقيق مكاسب سياسية، سواء فى مصر أو فى مناطق أخرى. وباتت القضية الفلسطينية تُستخدم بشكل متكرر من قبل هذه الجماعات لتعبئة الجماهير وحشد الدعم الإقليمى والدولي، بينما كانت الأولوية الحقيقية لهذه الجماعات هى تعزيز قوتها السياسية وتحقيق أجنداتها الإيديولوجية.
ولم تقتصر هذه الاستفادة على الحركات الإسلامية فقط، بل شملت أيضًا بعض الدول التى سعت لتوظيف القضية الفلسطينية لصالح أجنداتها الإقليمية، وبذلك تحولت القضية الفلسطينية من قضية تحرر وطنى لشعب يعانى من الاحتلال إلى ساحة صراع سياسى تستخدمها الأطراف المتعددة لتحقيق أهدافها الخاصة، مما أضر بالقضية الفلسطينية وجعلها أكثر تعقيدًا وأقل قدرة على تحقيق هدفها النهائى وهو إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
الإخوان والقضية الفلسطينية
منذ نشأتها فى عام ١٩٢٨، اعتمدت جماعة الإخوان المسلمين على القضية الفلسطينية كجزء أساسى من مشروعها الإيديولوجى والسياسي، وجعلتها حجر الزاوية فى خطابها الدعوى والجهادي. ففى إطار هذا التوجه، ارتبطت القضية الفلسطينية بنضال الجماعة ضد ما اعتبرته "العدو الصهيوني" و"الاستعمار الغربي". وتحت شعار "تحرير فلسطين" ربطت جماعة الإخوان بين الجهاد فى سبيل الله وضرورة إقامة دولة إسلامية، مما جعل من القضية الفلسطينية وسيلة لتعبئة الجماهير فى العالم الإسلامى ودعم مشروعها الأوسع. كان الإخوان يروجون لفكرة أن تحرير فلسطين هو جزء من معركة الأمة الإسلامية لاستعادة كرامتها ومكانتها بين الأمم، وبالتالى كان يُنظر إلى فلسطين كقضية إسلامية بحتة، وليست فقط وطنية.
استخدمت جماعة الإخوان القضية الفلسطينية ليس فقط كدافع للتحشيد الشعبي، بل كأداة لتوسيع نفوذها السياسى على مستوى العالم العربى والإسلامي. فقد كانت الجماعة تستغل مشاعر الأمة الإسلامية تجاه فلسطين لجذب الدعم الشعبى فى مختلف الدول العربية، خاصة فى مصر، حيث كانت القضية الفلسطينية موضوعًا حساسًا وحاضرًا فى كل النقاشات السياسية. كانت جماعة الإخوان تقوم بإشراك نفسها فى الأنشطة التى تدعم الفلسطينيين، سواء من خلال المظاهرات أو حملات التوعية، مما جعلها تظهر كأبرز المدافعين عن القضية الفلسطينية. هذا الاستخدام الإعلامى كان له دور كبير فى تعزيز صورتها كقوة سياسية حاضرة وفعالة فى الساحة العربية، حتى وإن كانت هذه الأنشطة فى بعض الأحيان تُستغل لجذب الدعم الداخلى فى الوقت الذى تتأرجح فيه شرعية الجماعة فى بعض الدول. وفى سياق حكم محمد مرسي، الذى كان ينتمى إلى جماعة الإخوان، فقد سعت الجماعة إلى توظيف القضية الفلسطينية لتعزيز موقفها السياسى داخل مصر وعلى الصعيد الإقليمي؛ كانت القضية الفلسطينية تمثل وسيلة استراتيجية لتوثيق العلاقة بين حكومة الإخوان وحركة حماس. فقد قامت حكومة مرسى بتسهيل التنقلات بين قطاع غزة ومصر، بل وكان هناك تعاون مستمر بين الطرفين فى مجالات متعددة. ولقد كانت هذه الخطوات جزءًا من استراتيجية الإخوان لتقديم أنفسهم كأبطال للمقاومة الفلسطينية، وتحقيق مكاسب سياسية على حساب تهميش القوى السياسية الأخرى فى مصر.
فى ذات الوقت، استغلت جماعة الإخوان وحركة حماس القضية الفلسطينية لتمرير أجندات سياسية، وخاصة على الصعيد الإقليمي. فقد سعت حماس، بفضل دعم جماعة الإخوان، إلى تقوية نفسها كحركة إسلامية قوية تسيطر على قطاع غزة، وهو ما مكنها من التأثير على المشهد الفلسطينى والإقليمي. فى ظل علاقاتها القوية مع إيران وتركيا، كان لدى حماس دور كبير فى استغلال القضية الفلسطينية لتعزيز مكانتها كقوة إقليمية يمكنها أن تلعب دورًا مهمًا فى ملفات المنطقة، لا سيما فى مواجهة إسرائيل. ومع أن حماس كانت تتبنى مواقف سياسية متشددة أحيانًا ضد السلطة الفلسطينية فى رام الله، إلا أن موقفها كان يحظى بتأييد شعبى كبير فى بعض الأوساط الإسلامية، مما جعلها تلعب على الوتر العاطفى للشعب الفلسطينى والعربي.
بالمثل، استخدم مرسى وحكومة الإخوان القضية الفلسطينية لتحقيق مكاسب سياسية داخل مصر. فقد كانت القضية الفلسطينية بمثابة رافعة سياسية تساعد فى تعزيز الشرعية الشعبية لحكومة مرسى التى كانت تواجه تحديات داخلية شديدة، بما فى ذلك احتجاجات ضد سياساتها الاقتصادية والاجتماعية. من خلال تأكيد موقفه الثابت تجاه القضية الفلسطينية، كان مرسى يسعى إلى إظهار التزامه بثوابت الأمة الإسلامية، مما كان يعزز من شرعيته السياسية داخليًا فى مواجهة المعارضة، ويجعله يحظى بدعم قطاعات واسعة من الشعب المصري، وخاصة القوى الدينية.
فى النهاية، رغم أن جماعة الإخوان وحركة حماس قد دعمت القضية الفلسطينية فى الخطاب العام، فإنهما فى بعض الأحيان كانا يستخدمان القضية كوسيلة لتحقيق مكاسب سياسية تتجاوز الاهتمام الحقيقى بمصلحة الشعب الفلسطيني. فقد تحولت القضية الفلسطينية إلى أداة ضغط سياسي، ليس فقط ضد إسرائيل، بل أيضًا ضد الأنظمة العربية المنافسة، مما جعلها تُستغل بشكل يضر بالقضية فى كثير من الأحيان.
حركة حماس
حركة حماس، التى تأسست فى قطاع غزة فى عام ١٩٨٧، نشأت كفرع فلسطينى لجماعة الإخوان المسلمين. فى بداياتها، كانت حماس بمثابة ذراع إسلامى مسلح للقتال ضد الاحتلال الإسرائيلي، حيث استندت إلى الأيديولوجية الإخوانية التى تروج لفكرة أن "الجهاد" هو الطريق لتحرير الأرض الفلسطينية. مع ذلك، يمكن القول إن حركة حماس كانت، منذ نشأتها، تسعى لتحقيق أهداف جماعة الإخوان المسلمين فى فلسطين، والتى تتجاوز التحرير الوطنى لتشمل تحقيق "دولة إسلامية" فى المنطقة. فى بداية الأمر، ظهرت حماس كحركة مقاومة معارضة للسلطة الفلسطينية، مستفيدة من مشاعر الرفض الشعبية للفساد والتدهور السياسى الذى كان سائدًا فى السلطة الفلسطينية تحت قيادة منظمة التحرير. إلا أن ما لبثت أن تحولت هذه الحركة إلى فصيل سياسى يسعى للهيمنة على السلطة فى قطاع غزة، مستغلة المقاومة الفلسطينية كأداة لتحقيق مكاسب سياسية.
منذ عام ٢٠٠٦، بعد فوز حماس فى الانتخابات التشريعية الفلسطينية، بدأت الحركة تتحول إلى فصيل سياسى يسعى للسيطرة على القطاع. بعد صراع مرير مع حركة فتح، نجحت حماس فى الاستيلاء على قطاع غزة فى ٢٠٠٧ بعد أحداث دموية خلفت العديد من الضحايا، فيما أصبح يعرف بـ "الانقلاب" على السلطة الفلسطينية. سيطرة حماس على غزة لم تكن مجرد نتيجة للانتصار فى المعركة العسكرية ضد فتح، بل كانت جزءًا من استراتيجية واسعة لتكريس نفسها كقوة سياسية مستقلة وقائدة للمقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي، وفى نفس الوقت كداعم لتحقيق الأجندة الإخوانية فى المنطقة. من هنا بدأنا نرى كيف استثمرت حماس "المقاومة" كأداة للتوسع السياسى الداخلى وتعزيز سلطتها فى غزة على حساب المصالحة الفلسطينية، التى كانت تأمل بها قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني. إن ما تفعله حركة حماس فى غزة منذ سيطرتها عليه هو استغلال المقاومة الفلسطينية كأداة لتعزيز وجودها السياسى والتمسك بالسلطة على الأرض. بعد أن عززت سيطرتها على القطاع، عملت حماس على بناء شبكة من المؤسسات والميليشيات التى تساهم فى تأمين السيطرة على الوضع الأمنى والسياسى فى غزة، متجاهلة فى كثير من الأحيان مصالح الشعب الفلسطيني. على سبيل المثال، انتهجت الحركة سياسة قمعية ضد معارضيها، كما قامت بفرض حصار داخلى على العديد من المناطق، مما أدى إلى تفاقم الأزمة الإنسانية فى القطاع. علاوة على ذلك، كان لحركة حماس دور فى تعطيل جهود المصالحة الوطنية الفلسطينية، لا سيما فيما يتعلق بمحادثات المصالحة مع حركة فتح، وذلك خوفًا من فقدان السيطرة على غزة وتنازلها عن السلطة فى القطاع. و بالإضافة إلى ذلك، استخدمت المقاومة الفلسطينية كوسيلة لتوسيع نفوذها الإقليمي. فقد كانت حركة حماس تتلقى دعمًا سياسيًا وعسكريًا من دول مثل إيران وقطر وتركيا، مما عزز من مكانتها كفصيل إقليمى منافس للمصالحة الفلسطينية فى الضفة الغربية. هذا الدعم لم يكن من أجل مصلحة الفلسطينيين فقط، بل كان يهدف إلى تعزيز دور حماس كأداة إقليمية فى الصراع مع إسرائيل، وفى سياق التنافس الإقليمى فى منطقة الشرق الأوسط، ما جعل حماس تُسحب فى صراعات إقليمية أدت إلى تفاقم الوضع الفلسطينى على الأرض.
أحد أكبر الجرائم التى ارتكبتها حركة حماس ضد الشعب الفلسطينى تمثل فى استخدام المواطنين كدروع بشرية، وخرق قواعد القانون الدولى فى عملياتها العسكرية. خلال الحروب مع إسرائيل، وخاصة فى عام ٢٠١٤، تم توجيه انتقادات حادة لحماس بسبب استخدامها المنشآت المدنية مثل المدارس والمستشفيات لإطلاق الصواريخ نحو إسرائيل، مما عرض حياة المدنيين الفلسطينيين للخطر. كما تورطت الحركة فى تصفية حسابات مع معارضيها فى غزة، حيث اعتقلت وأعدمت العديد من الأفراد الذين كانوا يعارضون حكمها. فى هذا السياق، تم توثيق حالات واسعة من الاعتقال التعسفي، والتعذيب، والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان فى القطاع تحت حكم حماس. هذه الممارسات حولت غزة إلى منطقة معزولة تحت سلطة قمعية، مما زاد من معاناة الشعب الفلسطيني.
من خلال استغلال القضية الفلسطينية كأداة للهيمنة السياسية، أصبحت حماس قوة غير قادرة على التفاهم مع باقى الفصائل الفلسطينية، وهو ما فاقم الانقسام الداخلى الفلسطيني. رغم أن خطاب حماس يظل يتبنى "تحرير فلسطين" والمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، إلا أن الواقع على الأرض يظهر أن الحركة قد حولت نفسها إلى كيان سياسى يسعى للحفاظ على مصالحه الخاصة على حساب مصالح الشعب الفلسطينى بشكل عام.
حزب الله والقضية الفلسطينية
حزب الله، الذى تأسس فى لبنان فى عام ١٩٨٢ بعد الاجتياح الإسرائيلى للبنان، بدأ كحركة مقاومة تهدف إلى تحرير الأراضى اللبنانية من الاحتلال الإسرائيلي. ومع مرور الوقت، تحول الحزب إلى قوة سياسية وعسكرية إقليمية مؤثرة، ولعب دورًا كبيرًا فى الصراع العربى الإسرائيلي. وعلى الرغم من أن الحزب أعلن فى بداياته أنه يسعى لتحرير الأراضى اللبنانية فقط، إلا أن الحزب سرعان ما بدأ يستخدم القضية الفلسطينية كجزء أساسى من خطاباته الإيديولوجية والسياسية. من خلال دعم حركات المقاومة الفلسطينية مثل حماس والجهاد الإسلامي، قدم حزب الله دعماً لوجستياً، تدريبياً، وتمويلاً لهذه الحركات بهدف تعزيز "مقاومتها" ضد الاحتلال الإسرائيلي. كان هذا الدعم يُقدم فى إطار استراتيجية أكبر تهدف إلى تعميق التحالفات مع هذه الحركات وتقوية مكانة حزب الله فى المعادلة الإقليمية، مع استغلال القضية الفلسطينية كأداة لتحقيق أهدافه السياسية والإستراتيجية فى المنطقة.
من خلال دعمه لحركات المقاومة الفلسطينية، استثمر حزب الله القضية الفلسطينية لتعزيز نفوذه الإقليمى فى العالم العربى والإسلامي. على سبيل المثال، كانت لبنان قاعدة لتدريب مقاتلى حماس والجهاد الإسلامي، حيث أرسل الحزب مستشارين عسكريين لتقديم تدريبات متقدمة على أساليب القتال ضد القوات الإسرائيلية. هذا الدعم، الذى يتجاوز الكلمات والشعارات، ساعد فى بناء صورة حزب الله كمدافع عن القضية الفلسطينية، ما منح الحزب شرعية سياسية فى المنطقة. وفى الوقت نفسه، استغل الحزب هذا الدعم لتعميق علاقاته مع دول مثل إيران وسوريا، اللتين قدما دعمًا لحزب الله فى جميع مراحل تحوله إلى قوة إقليمية، مستفيدين من مناخ المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلى للترويج لأجنداتهم الخاصة فى المنطقة.
وعندما اندلعت الحرب السورية فى عام ٢٠١١، سعى حزب الله إلى تقديم دعمه للنظام السورى بقيادة بشار الأسد، مستغلاً القضية الفلسطينية لتبرير تدخله العسكرى فى الصراع. من خلال إقناع الرأى العام العربى والإسلامى بأن استقرار سوريا وحماية النظام السورى أمر لا غنى عنه من أجل "مواصلة دعم القضية الفلسطينية"، استخدم الحزب القضية الفلسطينية كأداة لتوسيع دائرة نفوذه السياسى والعسكري. فى خطب وتصريحات متعددة، ربط حزب الله بين التدخل فى سوريا ومواصلة الصراع ضد إسرائيل، مشيرًا إلى أن الحفاظ على الأسد هو جزء من المقاومة التى تمثل "أمل الفلسطينيين" فى مواجهة الاحتلال. هذا التحول فى خطاب حزب الله من دعم المقاومة اللبنانية فقط إلى الانخراط فى الشؤون السورية كان جزءًا من استراتيجية لتوسيع دور الحزب فى العالم العربي، مستفيدًا من القضية الفلسطينية كذريعة لشرعنة تدخلاته الإقليمية.
من ناحية أخرى، استفاد حزب الله من القضية الفلسطينية فى تعزيز مكانته السياسية والعسكرية فى لبنان وسوريا. من خلال تصوير نفسه كحامى للمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، تمكن الحزب من كسب الدعم الشعبى فى لبنان وفى بعض أوساط العالم العربي. الخطاب الذى يستخدمه الحزب حول الدفاع عن فلسطين يُسهم فى تعزيز مكانته فى لبنان، حيث يضع نفسه فى مواجهة إسرائيل، وهى قضية تشغل العرب عامة والفلسطينيين خاصة. هذه الاستراتيجية سهلت له توسيع نفوذه فى مناطق أخرى، مثل سوريا والعراق، حيث ساعد دعم حزب الله لحركات المقاومة الفلسطينية فى بناء تحالفات مع فصائل مقاتلة أخرى تسعى لتهديد أمن إسرائيل. مع مرور الوقت، أصبح حزب الله يتباهى بأنه ليس فقط مدافعًا عن لبنان ضد الاحتلال، بل أيضًا المدافع الأساسى عن حقوق الفلسطينيين.
من خلال استخدام القضية الفلسطينية كوسيلة لشرعنة وجوده العسكرى والسياسى فى لبنان وسوريا، تمكن حزب الله من تعزيز علاقاته مع إيران، التى تعتبر القضيّة الفلسطينية جزءًا أساسيًا من أجندتها. بالإضافة إلى ذلك، دعم الحزب، الذى يتلقى التمويل والمساعدة العسكرية من طهران، حركة حماس والجهاد الإسلامى والفصائل الفلسطينية الأخرى، بهدف تأكيد قوة موقفه الإقليمى وكسب شرعية إضافية فى إطار الصراع ضد إسرائيل. كما جلبت هذه السياسة دعمًا من قطاعات واسعة من الرأى العام العربي، الذى يرى فى حزب الله رمزية للمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، رغم أن الحزب فى الحقيقة كان يسعى لتحقيق أجندات إقليمية تتجاوز بكثير القضية الفلسطينية نفسها.
تداعيات استغلال القضية على الشعب الفلسطيني
أثر استغلال القضية الفلسطينية على الشعب الفلسطينى كان مدمرًا على عدة أصعدة. من أبرز هذه الآثار هو التدمير الداخلى الذى شهدته الساحة الفلسطينية بسبب الصراعات المستمرة بين الفصائل المختلفة. واحدة من أبرز تلك الصراعات كانت بين حركة حماس وحركة فتح، والتى بدأت بعد الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام ٢٠٠٦. عقب فوز حماس، نشبت حرب أهلية فى قطاع غزة فى عام ٢٠٠٧، حيث سيطرت حماس على القطاع، ما أدى إلى تقسيم الأراضى الفلسطينية إلى قسمين: قطاع غزة الذى تديره حماس، والضفة الغربية التى تسيطر عليها السلطة الفلسطينية بقيادة فتح. هذا الانقسام السياسى والإيديولوجى بين الفصائل الفلسطينية عمق من معاناة الشعب الفلسطيني، حيث تحولت القضية الفلسطينية إلى صراع داخلى على السلطة بدلًا من التركيز على تحرير الأرض وإقامة الدولة الفلسطينية. بالإضافة إلى ذلك، تأثرت المصالحة الوطنية الفلسطينية بشكل كبير بسبب التدخلات الإقليمية التى كانت تستغل الصراع الفلسطيني-الفلسطينى لتحقيق أهداف إقليمية.
من ناحية أخرى، أدت الحروب التى شنّتها بعض الجماعات، مثل حزب الله وحركة حماس، إلى إشغال الشعب الفلسطينى فى حروب بالوكالة لم تحقق أى تقدم فعلى فى القضية الفلسطينية. على سبيل المثال، دعمت إيران وحزب الله حركة حماس فى صراعها مع إسرائيل فى عدة جولات من الحرب، مثل حرب ٢٠٠٨-٢٠٠٩ وحرب ٢٠١٤، حيث قدمت دعمًا عسكريًا ولوجستيًا لحماس. لكن هذه الحروب، على الرغم من تكلفتها البشرية والمادية الباهظة، لم تؤدِ إلى أى تحرك ملموس نحو تحرير الأراضى الفلسطينية أو تحقيق المصالحة الوطنية. بدلًا من ذلك، تركزت الجهود على المواجهات العسكرية التى دمرت البنية التحتية فى غزة وأدت إلى معاناة متزايدة للشعب الفلسطيني. وقد أدت الحروب إلى تضاعف الخسائر البشرية والدمار، مع عدم وجود أى أفق لتحقيق أى من الأهداف الفلسطينية الأساسية.
فى كثير من الأحيان، كان الشعب الفلسطينى يُستخدم كأداة فى الصراعات الإقليمية التى خاضتها هذه الجماعات. على سبيل المثال، كان حزب الله وحماس فى بعض الأحيان يخوضون معارك عسكرية ليس فقط ضد إسرائيل، بل أيضًا من أجل تأكيد قوتهم ونفوذهم فى المنطقة. فى لبنان، على سبيل المثال، استخدم حزب الله القضية الفلسطينية كجزء من حملته الدعائية للترويج لنفسه كحامى للمقاومة ضد إسرائيل، بينما كانت المصلحة الوطنية الفلسطينية تتضاءل فى ظل هذه الاستراتيجية. حزب الله استفاد من القضية الفلسطينية لتعزيز شرعيته فى لبنان ودوره الإقليمي، لكنه فى نفس الوقت لم يحقق أى مكاسب حقيقية لصالح الفلسطينيين. فى المقابل، كانت حماس تُصر على أن مقاومتها ضد الاحتلال الإسرائيلى هى الهدف الأول، لكن فى واقع الأمر كانت تُكرس وجودها العسكرى فى غزة على حساب المصالحة الوطنية الفلسطينية.
إضافة إلى ذلك، العديد من الجماعات فى غزة ولبنان وسوريا ركزت على أجنداتها الخاصة التى كانت تتعارض مع المصلحة العليا للشعب الفلسطيني. فى غزة، على سبيل المثال، فضلت حركة حماس الاحتفاظ بالسلطة على حساب توحيد الصف الفلسطينى وتحقيق المصالحة. كما أن هذه الجماعات لم تكن تركز على تعزيز العلاقات مع القوى الدولية التى يمكن أن تدعم القضية الفلسطينية على الساحة العالمية، بل كانت تسعى إلى توسيع دائرة تأثيرها الإقليمي. فى لبنان، استخدم حزب الله القضية الفلسطينية لتعزيز مكانته السياسية فى الداخل اللبنانى ولتبرير تدخلاته العسكرية فى الصراعات الإقليمية مثل الحرب السورية. فى سوريا، سعت الجماعات المسلحة، بما فى ذلك تلك المدعومة من إيران، إلى استخدام القضية الفلسطينية كجزء من خطابها لتبرير تواجدها فى الصراع السوري، دون أن يكون هناك أى تحرك فعلى نحو القضية الفلسطينية نفسها.
تجلى أيضًا تجاهل المصالح الوطنية الفلسطينية فى طريقة إدارة هذه الجماعات للصراع مع إسرائيل. بينما كان الفلسطينيون فى غزة يعانون من الحصار والدمار المستمر بسبب الحروب، كانت حركات مثل حماس وحزب الله تركز على تعزيز وجودها العسكرى والسياسي. هذا الاستغلال للقضية الفلسطينية من قبل هذه الجماعات جعل المعاناة الفلسطينية مستمرة دون أى تقدم حقيقى نحو إنهاء الاحتلال أو تحسين الوضع المعيشى للشعب الفلسطيني. بدلاً من السعى لتحقيق أهداف وطنية فلسطينية موحدة، كان الصراع الفلسطينى ينحرف نحو أهداف إقليمية ضيقة لا علاقة لها بالتحرر الوطنى الفلسطيني.