المتاهة الأوروبية
من حرب خاطفة إلى حرب مستدامة
في أكتوبر الماضي، 2023، عقدت الشبكة الأوروبية للقيادة ELN ورشة عمل استمرت يومين كاملين. طرحت الورشة سبعة سيناريوهات للطريقة التي سينتهي بها الصراع الأوكراني- الروسي: ثلاثة سيناريوهات في حال كسب أحد الطرفين المعركة على الأرض، وأربعة مآلات أخرى في حال بقيت المعركة عصية على الحسم. الآن مع تغير بيئة المعركة، بحسب عضو الشبكة كاتيا غولد، تبدو السيناريوهات الثلاثة التالية هي الأكثر معقولية: حرب مستدامة، التصعيد الزاحف، أو التصعيد العنيف. السيناريوهات الثلاثة كلها ذهبة في اتجاه واحد، وما من استراتيجية خروج في الأرجاء.
أخطأت حسابات الروس تجاه أوكرانيا، بحسب كلمات فيكتور أوربان، صديق بوتين الوفي، في لقائه مع صحيفة دي فيلت الألمانية. إلا أن الروس الذين وقعوا في فخ الحسابات السيئة ليسو أغبياء ولا مجانين، يقول أوربان. وإن لم تمض حربهم إلى الأمام، كما خططوا لها، فإنهم استطاعوا أن يخلقوا دولة فاشلة وظيفياً Dysfunctional state، دولة من الركام، بينهم وبين أوروبا كما يقدر البروفيسور ميرشهايمر.
لا توجد حتى الساعة استراتيجية أوروبية للخروج من المأزق. مخازن أوروبا من السلاح على وشك النفاد، يتطلب ملأها أن تستجيب المصانع الأميركية لقائمة المشتروات الأوروبية بسرعة كافية. حدث أمر مماثل إبّان الحرب العالمية الثانية، إذ صارت أميركا الغارقة في الكساد الكبير إلى مصنع للسلاح، ووجد ملايين العاطلين مخرجاً من الفقر.
تذهب التوقعات إلى أن وضعاً مستداماً من زعزعة الاستقرار سيسود ليس وحسب على الجبهة الشرقية مع احتمالاتها المفتوحة، بل في الداخل الأوروبي. العنف الذي جرى ضد المسلمين في بريطانيا، في الأسابيع الماضية، أعطى صورة مروّعة عمّا يعتمل داخل المجتمعات الأوروبية تحت السطح اللامع. وفي حين تترنّح الديموقراطية الليبرالية في الكتلة الشرقية فإن اليمين الأوروبي، والغربي عموماً، يكسب أرضاً كل يوم. في انتخابات 2020 حصل ترامب، الذي أفصح أكثر من مرّة عن تفضيله لنموذج حكم الفرد، على 74 مليون صوتاً.
يقظة على مفترق طرق
مع بداية هذا العام شهدت أوروبا ما أسماه جيوفاني غريفي، أستاذ العلاقات الخارجية الأوروبية في بروغز- بلجيكا، باليقظة الثانية. تحت ظلال المخاوف من عودة ترامب، مع تصعيد روسي مستمر على الجبهة الشرقية، فضلاً عن التحدي الاقتصادي والسياسي الذي تفرضه الصين، استيقظت أوروبا من سباتها. غير أنّها صحوة مليئة بالنشاز، بحسب غريفي، بسبب التناقضات الداخلية المعقدة بين القوى الكبرى، وفي مقدمتها ألمانيا وفرنسا. تبدو أوروبا تائهة، على مفترق طرق. ما من قائد أوروبي تحدث عن الضياع الاستراتيجي الذي انزلقت إليه أوروبا كمثل إيمانويل ماكرون. في لقاءاته وخطاباته نادى أوروبا إلى مواجهة المخاطر الداخلية والخارجية المحدقة، وإلى الوقوف في وجه التيارات الشعبوية التي تهدد البناء الأساسي، الأخلاقي والسياسي، للقارة. في خطابات ماكرون إشارة إلى “اليوم التالي”، وهو ذلك الزمن المفتوح الذي ستجد فيه أوروبا نفسها وحيدة، تكابد جبهة غير مستقرة على حدودها الشرقية، وتركن إلى حليف متقلب على الضفة الأخرى من الأطلسي. فضلاً عن الزحف الصيني الشره إلى استغلال كل الفراغات التي تعجز أوروبا عن ملئها.
في المواجهة التقنية بين الصين وأميركا تقف أوروبا متفرّجة، ليس في حوزتها ما يكفي من الإمكانات لخوض صراع تقني معقد على المسرح الدولي. يتذكر الألمان سنوات ترامب الأربع، الصعبة، حيث انهال بكل قسوة على أوروبا والنيتو، وعلى ألمانيا بشكل خاص. من بين حلفائه الأوروبيين اختار ترامب لصداقته القادة الأكثر إثارة للجدل، مثل فيكتور أوربان. وهم أولئك الذين تنظر إليهم أوروبا القديمة بحسبانهم خطراً على قيمها الليبرالية. فيض البروباغاند الروسي والصيني المناهض للديموقراطية الأوروبية، عبر مئات القنوات الفضائية ووسائط أخرى عصية على الحصر، جعل سردية الديموقراطية الليبرالية في وضع متأرجح. وعلى ضوء الحرب على غزة انكشفت الديموقراطية الليبرالية ليس أمام الصين وحسب، بل الجنوب العالمي برمّته. في عالم من السماوات المفتوحة، كما لم تكن الأرض من قبل، رأى العالم نفاق الغرب، ورأى أكثر من ذلك كم هي الديموقراطية الليبرالية عرضة للاختطاف.
الأطلسي الأخير
استيقظت أوروبا من سباتها مؤخراً لا لأنها لم تعد ترغب في النوم تحت المظلة الأميركية، بل لأن أميركا نفسها لم تعد قادرة، كما كانت، على أن تكون مظلة للبلدان البعيدة. حين قال أوباما، ضمن استراتجيته بناء أمة من الداخل، إن السعوديين يريدون أن يركبوا في العربة الأميركية بالمجان، فهو كان يشير إلى رؤيته الجوهرية لبلاده، وهي أنها لم تعد قادرة على أن تكون إمبراطورية وبات عليها أن تتدبر أمرها كقوة عظمى. يعيد ترامب، حين يتحدث عن الأوروبيين، ما قاله أوباما عن حلفاء بلاده في الشرق الأوسط: الراكبون بالمجان.